
من يراقب المشهد الموريتاني اليوم يدرك أن الحديث عن الفساد لم يعد ترفًا سياسيًا ولا مجرد شعار انتخابي يُرفع وقت الحاجة، بل أصبح ظاهرة متجذّرة في صميم بنية الدولة، ومكوّنًا أساسيًا في سلوك النخبة التي سيطرت على الوظائف والمناصب منذ عقود طويلة، دون أن تفسح المجال لتجديد أو تداول حقيقي للكفاءات.
لقد تحولت الإدارة الموريتانية إلى ما يشبه الإقطاع الحديث، حيث تُورّث الوظائف كما تُورّث الأراضي، ويتوارث الأبناء مواقع آبائهم دون حياء ولا مساءلة، فيما يهرب الموظفون الكبار من شبح التقاعد كأنهم حراس أبديون على المال العام الذي ينهب أمام أعين الجميع.
المفارقة المذهلة أن الفساد لم يعد سلوكًا معزولًا أو حالات فردية، بل أصبح ثقافة رسمية، لها رموزها وحماتها، ومناخها الذي ينمو فيه الإفلات من العقاب.
ومن المؤسف أن مكافحة الفساد في موريتانيا لم تكن يومًا سياسة جدية، بل مجرد فقاعات إعلامية موسمية تُطلق لامتصاص غضب الشارع، ثم تختفي مع أول رائحة فضيحة جديدة.
ورغم أن البلاد تعوم على ثروات هائلة، من بحار مليئة بالسمك وأرض تزخر بالذهب والغاز والمعادن، فإن سكانها الذين لا يتجاوز عددهم خمسة ملايين نسمة ما زالوا من أفقر شعوب الأرض.
فالدولة التي يفترض أن تكون غنية بمواردها، ظلت ترزح تحت وطأة الديون والمساعدات، تتسول القروض والمنح من كل صوب، لتُضاف كعبء جديد على كاهل الأجيال القادمة، في حين يزداد ثراء المسؤولين ويتسع نفوذهم، وتُبنى القصور من عرق المساكين.
لقد أعاد تقرير محكمة الحسابات الأخير الجدل حول هذه الظاهرة القديمة الجديدة، كاشفًا حجم الاختلالات وسوء التسيير الذي ينخر مؤسسات الدولة من الداخل.
لكن الغرابة — بل الفضيحة — أن من تصدروا واجهة الحملة الداعية إلى محاربة الفساد هم أنفسهم رموز الفساد وناهبي المال العام!
بل إن بعضهم سارع إلى تبني خطاب الوعظ والإصلاح، يتحدث عن النزاهة والشفافية وكأنه لم يكن يومًا جزءًا من ماكينة النهب التي دمّرت مقدرات الوطن.
إنها مفارقة تثير الاشمئزاز أكثر مما تثير الغضب: عندما يرفع الفساد شعار محاربة الفساد، والمفسدون يتحولون إلى دعاة أخلاق، بينما يبقى المواطن البسيط وحده يدفع ثمن هذا العبث، فقراً، وبطالة، وانعدامًا للأمل.
لقد آن الأوان لأن تُفتح الملفات لا بالأقوال، بل بالأفعال، وأن تتوقف هذه المسرحية التي تُعرض على الشعب منذ عقود بنفس الوجوه ونفس الخطاب.
فالإصلاح لا يمكن أن يأتي من داخل منظومة الفساد، ولا يمكن أن يقوده من راكموا ثرواتهم من المال العام.
وما لم تكسر موريتانيا حلقة التوريث الإداري والإفلات من العقاب والفساد الممنهج، فإنها ستبقى — رغم ثرواتها — فقيرة، تتسول على أبواب اللئام، حتى تنهار تحت أقدام نخب اعتادت أن تسرقها باسم الوطن.
مولاي الحسن مولاي عبد القادر