
تبدو مدينة ولاتة، مدينة العلم والنور، ومنارة الصحراء وملتقى القوافل، أول المدن تأسيسًا في هذا الفضاء المترامي، وآخرها اتصالًا بالعالم الحديث.
كانت ولاتة بالأمس مهوى أفئدة العلماء والطلاب، ومركز إشعاعٍ حضاريٍّ فاق حدود الصحراء الكبرى، أما اليوم فهي شاهدة صامتة على تهميشٍ مؤلمٍ وتجاهلٍ ممنهجٍ يكاد يُطمس تاريخها العريق.
كيف لمدينةٍ حملت مشعل الثقافة أن تُترك أسيرة الرمال والعزلة؟
كيف يُعقل أن تبقى ولاتة، مدينة العلماء والمكتبات، محرومة من أبسط مقومات الارتباط بالعصر، طريق معبدة تصلها بسائر الوطن؟
أهو القدر الأعمى، أم أن في الأمر نقمة؟ أم هو الإهمال المتوارث، أواستهدافًا صامتًا لذاكرةٍ لا تُريد بعض الأيادي أن تُبعث من جديد؟
إن العزلة التي تعيشها ولاتة ليست مجرد جغرافيا مقطوعة، بل هي عزلة رمزية، تمثل انفصالًا بين الماضي المشرق والحاضر الموجع.
مدينةٌ كانت يومًا جسرًا بين المشرق والمغرب، أصبحت اليوم جزيرةً منسية في قلب الصحراء، تُعاقَب على تاريخها بدل أن تُكافأ عليه.
أليس من العار أن تبقى ولاتة، بكل ما تمثله من عمق حضاري، آخر مدينة تصلها الخدمات؟ أليس من المخجل أن تبقى طرقها رمالًا تتلاعب بها الرياح، في زمنٍ تُعبد فيه الطرق نحو كل شيء إلا نحو الكرامة والتاريخ؟
إن ما تعانيه ولاتة اليوم ليس صدفة، بل نتيجة صمتٍ رسميٍّ طويلٍ وتقصيرٍ متعمدٍ في حق ذاكرة الأمة.
فمدن بلا تاريخ يمكن أن تُبنى بين ليلةٍ وضحاها، أما المدن التي صاغت وجدان أمة، فإن هدمها يبدأ بالإهمال.
في زمنٍ تتسابق فيه المدن إلى نيل حظّها من الاهتمام والرعاية، تبدو ولاتة "تلك الجوهرة التاريخية المعلقة على أطراف الصحراء" وكأنها تُركت وحيدة تواجه مصيرها، لا نصير لها من أبنائها ولا صوت يذود عنها في المحافل والمناسبات.
ولاتة التي أنجبت العلماء والفقهاء وحملت على كاهلها تراث الأمة وذاكرة الصحراء، أصبحت اليوم غريبة تستجدي أبنائها، منسية في قلوب من كان يفترض أن يكونوا حصنها الحصين.
ويزداد المشهد أسفًا مع اقتراب زيارة الرئيس المرتقبة، إذ لا يُرى في الأفق من يحمل همّ المدينة أو يسعى لتمثيلها بما يليق بتاريخها ومكانتها.
فـ"ولاتة لا بواكي لها" في هذه الزيارة، كما لم يكن لها بواكي في غيرها من المناسبات، بعد أن انصرف أبناؤها إلى خلافاتهم الصغيرة وتنازعهم العقيم بين "المدر والوبر"، تاركين مدينتهم التاريخية فريسة للإهمال والتهميش.
أما ممثلو المقاطعة المعلن عنهم في هذه الزيارة، فاثنان لا ثالث لهما: أحدهما منتخب لكنه يرى في تمثيل المدينة عبئًا لا يعنيه، متكئًا على موروث من العادات التي فصلت بين أبناء الرمال والطين، وكأن ولاتة لا تستحق منه سوى الغياب.
أما الآخر، فإطار ما يزال انتماؤه للمقاطعة موضع شكٍّ بين أهلها، وإن صعد في مدارج المسؤولية باسمها، إلا أن صعوده لم ينعكس خيرًا على أرضها ولا أهلها.
هكذا تمضي ولاتة، مثقلة بالخذلان، بين ماضٍ مجيدٍ يتغنّى به الجميع، وحاضرٍ بائسٍ يهرب منه الجميع.
لا تحتاج المدينة إلى خطبٍ رنانة ولا شعاراتٍ موسمية، بل إلى وقفة صادقة من أبنائها، إلى من يعيد إليها صوتها ومكانتها في قلب الوطن.
فالتاريخ لا يرحم من يتنكر لأصله، ولا يمجّد من تخلى عن مدينته ساعة الحاجة.
ولاتة لا تطلب المستحيل، بل حقها الطبيعي في العيش الكريم، والاعتراف بمكانتها التي كتبتها بأحبار العلماء ودماء القوافل.
فهل آن الأوان أن تُكسر هذه العزلة؟ أم أننا سنظل نُردد شعارات "التراث" في المهرجانات، بينما تئن المدينة الحقيقية تحت رمال النسيان؟
مولاي الحسن مولاي عبد القادر




















