
في وقتٍ تختنق فيه ولاية الحوض الشرقي بأزماتها المتعددة، وتوشك ثروتها الحيوانية على الانهيار تحت وطأة الحصار المالي الخانق، تأتي الزيارة المنتظرة للرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني لتعيد إنتاج المشهد ذاته الذي ألفه المواطنون هناك منذ عقود: استنفار إداري، تعبئة قبلية، ووعود مؤجلة لا تجد طريقها إلى التنفيذ.
الخزان الانتخابي المنسي
يظلّ الحوض الشرقي المفارقة الأكبر في الجغرافيا السياسية لمــوريتانيا: ولاية بحجم قارة، غنية بالثروة الحيوانية والبشرية، لكنها تعاني من فقر الخدمات وغياب المشاريع.
لقد تحوّل الحوض الشرقي، عبر الحكومات المتعاقبة، إلى "خزان انتخابي" يُستدعى في مواسم الاقتراع، ثم يُركن على رفّ النسيان بمجرد انتهاء التصويت.
واليوم، بينما يعود الرئيس إلى هذه الولاية الرعوية الأكبر في البلاد، تبدو الظروف أكثر قسوة من أي وقت مضى، بعد إغلاق الحدود المالية، وحرمان آلاف المنمين من الانتجاع التاريخي في أراضٍ كانت شريان رزقهم الوحيد.
صمت رسمي أمام كارثة رعوية
ورغم جسامة الأزمة، لم تُبادر السلطات إلى أي خطة طوارئ أو استراتيجية بديلة، لا لتوفير الأعلاف، ولا لتحديد مناطق رعوية جديدة.
أمام هذا الغياب، يقف المنمي الشرقاوي حائرًا، يراقب قطيعه الذي قد ينهار أمام أرضٍ قاحلة وماءٍ شحيح، بينما تتحدث نشرات الأخبار الرسمية عن "الإنجازات" و"الاستعدادات الكبرى" لزيارة الرئيس.
فأين الإنجاز الحقيقي حين يعجز المواطن عن توفير الكلأ لماشيته أو الغذاء لأسرته؟ خاصة إذا كان هذا المواطن في دولة غنية مثل (مـوريتانيـا).
تحضيرات سياسية أم تنموية؟
ولعل اللافت في الزيارة ليس مضمونها التنموي الغائب، بل مشهد التحضيرات الكرنفالية التي تُدار بعناية فائقة لتلميع الصورة لا لعرض الحقيقة.
اجتماعات متكررة، ولائم فاخرة، تكتلات قبلية، وسباق محموم في إظهار الولاء، وكأن الزيارة مناسبة لتوزيع الأدوار والمناصب لا لبحث حلول واقعية لمعاناة المواطنين.
وتُنفق أموال المؤسسات العمومية لتغطية نفقات بروتوكولية ضخمة، في تناقض صارخ مع دعوات الرئيس نفسه إلى الشفافية والتقشف.
وزير التنمية الحيوانية... بين الولاء والمسؤولية
ولعل الزيارة الأخيرة لوزير التنمية الحيوانية إلى مسقط رأسه كانت نموذجًا لهذا النهج.
ضجيج إعلامي كبير، ووعود شخصية، دون أي حلول ملموسة للأزمة.
وإذا كانت الحكومة جادة فعلًا في مواجهة الحصار الذي يتهدد الثروة الحيوانية، فالأولى أن تبحث القضية مع الدولة المالية التي أصبحت هذه الولاية تستضيف معظم سكانها لاجئين، أو يتم إعلان خطة وطنية عاجلة لتوفير الأعلاف والمياه والدواء، لا أن تكتفي بمشاهد دعائية من مصنع ألبان متعثر، أو التزامات شخصية على حساب القطاع.
الفساد... الوجه الآخر للزيارة
من الصعب الحديث عن أي تنمية في ظل تفشي الفساد وسوء التسيير.
فالتحضيرات الجارية للزيارة تكشف عن وجهٍ آخر لهذا الداء المستشري: صرفٌ بلا رقابة، واستغلالٌ للمال العام في أغراض سياسية، وتهميشٌ ممنهج للمشاريع الخدمية التي يحتاجها المواطن.
إن مكافحة الفساد لا تكون بخطابات المناسبات، بل بقرارات شجاعة تُحاسب من يحول موارد الدولة إلى أدوات دعاية.
بين الرمزية والنتائج
ومهما يكن من أمر، فإن زيارة الرئيس إلى الحوض الشرقي، إن كانت فعلًا من أجل التنمية، فينبغي أن تكسر هذه المرة القاعدة المألوفة.
بأن تُمنع الاستقبالات الكرنفالية التي تُعطّل المؤسسات، وأن يُصدر الرئيس تعميمًا يُلزم المسؤولين بالبقاء في مواقع عملهم بدل التزاحم في مواكب الترحيب.
وأن تُطلق، بالمقابل، مشاريع حقيقية في مجالات الماء والتعليم والصحة والرعي والبنية التحتية.
عندها فقط سيكون للزيارة معنى.
أما إن بقي المشهد كما هو، أهازيج في الاستقبال، خطابات في الساحات، وصمت طويل بعد الرحيل، فستظل الزيارة مجرّد حلقة جديدة في مسلسل الوعود المكررة، التي ملّها الشرق وملّها الوطن بأسره.
مولاي الحسن مولاي عبد القادر



















